حظيت المقتنيات التراثية بنصيب وافر من العناية والتقدير منذ القدم ، لإدراك الناس لأهميتها القصوى في الحياة الثقافية ، فهي جزء مهم من الموروثات المادية التي تحمل عبق التاريخ ، تضم بين طياتها تفاعلات الزمان والمكان من أيام أزمنة غابرة ، و تستحوذ على ما خلفته الأجيال السالفة من مشغولات وأدوات بمكونات واشكال تركيبية ودلالية متنوعة مزدانة بنقوش وملامح إبداعية وفنية مثيرة ، تحفظ كذخيرة معرفية وحضارية في المتاحف والمعارض والبيوت ، كجزء لا يتجزأ من نسيج الحياة الإنسانية .
إنها نتاج حضاري لألاف السنين من التفاعل الحي بين الفنان المبدع والمكان ، بما تحمله من رؤى وقيم حضارية ، تعتبر بمثابة المكون الأصيل للشق المادي من الذاكرة الحضارية ، تكشف عن مكنون مخزون خبرات فنية لأجيال مضت ، تجسدها اشكال تكوينات فنية منسجمة في عمقها مع موروث عادات وتقاليد شعبية تأبى النسيان .
وتمتازالمقتنيات التراثية بتنوعها ووفرتها وتعدد أساليبها الفنية ، وامتزاج فنونها بثقافات انسانية متنوعة ، وبأنها نتاج حرف وصناعات تقليدية فنية مرتبطة بها ، يتوارثها الأبناء عن الأباء عبر الاجيال المتعاقبة ، كما تمتاز بتنوع المادة التي تصنع منها ، إذ تشمل مختلف المعادن كالذهب والفضة والنحاس والحديد ، إضافة الى مواد طبيعية اخرى كثيرة كالخشب والتراب والزجاج والحجارة والاقمشة وخيوط الصوف المغزولة والجلود ، يستخدمها الفنانون للتعبير عن تخيلات صور ذهنية محددة ، ينفذون أعمالهم على أساسها باشكال هندسية او طبيعية وبزخرفة سطحية متداخلة ومتنوعة بالغة الدقة تضفي عليها لمسات جمالية ، يستمدونها من فنون شرقية كثيرة كالحفر والرسم والتطعيم والنقش والتعشيق .
وما يجب التأكيد عليههو أن الإهتمام بالمقتنيات التراثية القديمة ظاهرة عامة ، يمكن ملاحظتها بشكل واضح من خلال اتساع فضاءات أسواقها ، وتهافت الأفراد والمتاحف والمؤسسات العامة والخاصة على شرائها ، وبالنسبة لي بشكل شخصي فان علاقتي مع المقتنيات التراثية طويلة من الناحية الزمنية , ترجع بداياتها إلى طفولتي الباكرة ، عندما حفرت لأول مرة مع أصدقاء لي بأيدينا بحثاً في الأرض عن النقود القديمة في قرية سبسطية التاريخية ، وتمكنت من تجميع خمس قطع مسكوكات رومانية قديمة من النحاس وثلاث قطع أخرى منها من الفضة ، فرحت بها كثيرا وشعرت كأنني ربحت كل أموال الدنيا.
شجعني والدي منذ ذلك الوقت من أربعينيات القرن الماضي على الإهتمام بجمع النقود القديمة ، وعرفني مبكراً على المقتنيات التراثية القديمة التي كان يشتريها من أسواق حيفا ومن خارجها ،حافظت عليها بعد رحيله ، وتمكنت بفضل تلك المقتنيات التي جمعها أن أصدر عنها كتابا بعنوان " متحف الذاكرة الحيفاوية ".
تواصل اهتمامي بالمقتنيات التراثية القديمة طيلة عمري ، وتمكنت من تكوين مجموعة كبيرة خاصةبي من مسكوكات النقود القديمة الرومانية والسيسانية والبيزنطية والإسلامية ،كما تمكنت أيضامن إقتناء مجموعة كبيرة من المقتنيات التراثية القديمةالمشغولة من الخشب والزجاج والفخار والفضة والنحاس والسجاد والحُلي التقليدية ، باشكال متنوعة شرقية التصميم وألوان عديدة من الفنون منسجمة ومتوافقة مع الطبيعة والثقافة العربية ، ومع واقع البيئة التي انتجتها .
تعود مقتنياتي من حيث عمرها إلى مئات السنين ، يتداخل فيها من الناحية البنائية مواضيع وأفكار وأشكال متعددة بدلالات كثيرة عربية وشرقية ، تظهر بنبض إبداعي يتزاحم فيه خيال مبدعيها من الصناع المهرة ، وتؤسس إلى منظومة معلومات متداخلة بعمق غائر في الماضي ، تفسح الطريق أمام سيل جارف من المعرفة عن التقاليد والعادات والبيئات المختلفة ، وعن أسماء الأعلام والأمكنة ومجريات الأيام المثقلة بالحكايا والأحداث التاريخية.
ولأن توثيق المقتنيات التراثية القديمة في مطبوعات مصورة خاصة بها يحظى بنصيب وافر من الاهتمام ، يمكن به تعريف القراء عليها وترسيخها في وجدانهم ، أجد نفسي سعيداً بإصدار هذا االعمل المتواضع عن مقتنياتي ، لتعريف القراء بها ، وقد قسمته تبعاً لمادة صنع المقتنيات الى ستة أقسام مستقلة يستعرض كل قسم جانباً منها ضمن اطرها المخصصة لأنماط مقتنياتها المتنوعة ، حيث يتناول القسم الأول المقتنيات الخشبية ، والثاني المقتنيات الفضية ، والثالث المقتنيات الزجاجية ، والرابع المقتنيات الخزفية ، والخامس المقتنيات النحاسية ، والسادس مقتنيات النقود ، والسابع مقتنيات الحُلي التقليدية ، والثامن مقتنيات السجاد .
تتلاقى في كل هذه الفصول جملة من المعارف التراثية ، أهمها على الإطلاق إبداعات الصناعات والفنون التقليدية في أكثر من سياق تخصصي ،بخصائص جمالية وفنية متنوعة ، تشكل الصورة أساساً مهماً في التعبير عنها ، كما تؤثر تاثيراً كبيراًفي حيثيات النص المتشعبة ، ترتبط بها بعلاقات دلالية ظاهرة .
تبقى الإشارة ضرورية إلى أنه سبق لبعض الصحف والمتاحف أن تناولت من قيل جزئياً أو كلياً موضوعات خاصة بالمقتنيات التراثية ، وهناك مؤلفات ومقالات كثيرة منشورة حولها ذات طبيعة أكاديمية وشبه أكاديمية ، لكن رهاني كان يقضي بجعل كتابي هذا بعيداً عن مثل هذه التعقيدات ، ولهذا بذلت جهداً في عرض مادة تعريفية بأسلوب واضح ومركز لنصوص مقتنيات كل قسم من أقسام الكتاب على مستوى التوصيف ومضمون المنظومة المعرفية التي تشكل البنية التكوينية لمكوناتها التراثية ، لتكون المادة مفهومة ومقبولة من لدن المتلقي.
وإني لأمل أن يُسهم كتابي هذافي ظهور كتب أخرى لغيري في مجال المقتنيات التراثية القديمة لإبراز جوانب مضيئة من تراثنا العربي الأصيل، ولسد جزء من الفراغ الذي تشكو منه المكتبة العربية في مجال المقتنيات التراثية على اختلاف أنواعهاواشكالها وأساليبها الفنية الإبداعية .