登入選單
返回Google圖書搜尋
註釋

إنّ أثر نيتشه في الفكر الفلسفي المعاصر من الأمور الواضحة، بحيث تمّ تجاوز جدل قيمة فلسفته بالنّسبة لمجمل تاريخ تطوّر الفكر الغربي بل والانساني. لأنّه استطاع قلب كلّ القيم الأساسيّة من خلال التّفلسف بضربات مطرقة. واستبدال المواقع والمضامين والطّرائق؛ الأعلى أصبح أدنى، والخير أصبح شرّا وضُعفًا، وطريقة العودة تحوّلت إلى استعادة. كما قام بزحزحة المفاهيم التّقليديّة من مواضعها الّتي استقرّت طويلا لدرجة أنّها أصبحت بديهيّات لا مفكّرة؛ مثل الأرض، والسّماء، والجسد، والرّوح، والحقيقي، والظّاهر، والكينونة...الخ. بل وابتكر مفاهيم أخرى من خلال إعادة شحنها بمضامين حيّة مثل العدميّة والإنسان الأعلى والاستقواء...الخ. كما استطاع إحداث فتوحات معرفيّة جديدة لم تكن موضوع بحث وتأمّل، ممّا جعل الكثير من الفلاسفة اللاّحقين له يستجيبون لاقتراحاته ويعملون على استكمال تنظيره من خلال استخراج النّتائج القصوى من مقدّماته.

ولئن كان الأثر العميق للفكر النّيتشوي على الفلسفة المعاصرة مسلّمة فلسفيّة، فإنّ هذا ما يبرّر كثرة الدّراسات على فكره وحتّى حياته، بحيث أصبحت الإحاطة بها جميعا أمرا معسورا على أيّ باحث مهما بلغ من الاجتهاد والتقصّي.والمسألة المثيرة للانتباه عند الاطّلاع على ما كُتب حول نيتشه، هي أنّ كلّ دارسٍ يقتصّ موضوعا ما لدراسته، يخلص إلى أنّ هذا الموضوع هو بالذّات ما يشكّل المدخل الضّروري لفلسفته. لذا نتج ما يمكن أن نسمّيه "بالأدب التّأويلي" الدّائر حول فلسفة نيتشه. وبين هذا المؤوّل وذاك نشأ الجدل والخلاف المتحوّر حول ماهيّة وجوهر فلسفته: هل هي في حقيقتها فلسفة أخلاقيّة ؟ أو ميتافزيقيّة؟ أو دينيّة جديدة ؟ أو نظريّة استطيقيّة ؟ ويبقى جدول التّأويلات مفتوح الإمكانيّات ومتعدّده. ويمكن أن نقرّر بأنّ كلّ منظور يقدّمه صاحبه يكون مبرّرا وصحيحا ومنسجما، لأنّ نصوص نيتشه الكثيرة كفيلة بإثبات أيّ منظور أو أيّ تأويل. وهذا في الحقيقة ميزة النّصوص الأصيلة؛ إذ هي قابلة للتّأويل والتّبرير من كلّ الزّوايا، وحتّى إن كانت التّأويلات متناقضة مثل تأويل ياسبرز وكامي، أو تأويل هايدجر وأودييف.