登入選單
返回Google圖書搜尋
القصيدة الشعبية .. وانعطافاتها المرحلية
註釋

القصيدة الشعبية ...

وانعطافاتها المرحلية

 

بدائية وبدء: متوحشاً كان الإنسان الأول في العراء المطلق يركض تحت ضياء البرق وتصرخ فوقه الصواعق وتصفعه الرياح وتبلله الأمطار ويرعبه عواء الضواري وزئيرها المريع، وحينما يقعى أمام كهفه القديم وتهدأ الطبيعة بعد أن ينقشع الغيم يرنو إلى النجوم المتلألئة فتهدأ نفسه المضطربة ويروح محدقاً بالقمر الوضاء ليشكره على تلك الطمأنينة التي منحته الهدأة والصفاء. وحينما يأوي إلى مخدعه الحجري يروح في تأملاته القصوى وتساؤلاته الملحة الضخمة ولما ينبلج الفجر يستيقظ على أغاريد الطير وثغاء الحيوانات الأليفة وحفيف الأشجار ونداوة العشب وعبير الزهر وجمال الطبيعة ثم يحدق ملياً بالشمس الساطعة في ملكوت الله ويشعر بامتنان عظيم لمصدر الدفء والحياة.

 

بالطبع في تلك النقطة البعيدة في سجف الزمان تعلم الإنسان الأول ما يرعبه وما يثير الاطمئنان فيه، ما يحبه وما يكرهه، ما تألفه أذنه وما تنفر منه، ما يشجيها وما يزعجها وعرف ما يحزنه وما يفرحه لمجرد سماع تلك الأصوات، عند ذلك أخذ يقلد تلك الأصوات "حفيف" هدير، ثغاء، عواء، نعيق، بغام" وأصبح يطلق على تلك الأصوات كدلالة على مصادرها الأولى ويُسمى ذلك الكلام بسجع الكهان، ومن هنا فقد نشأت في الجاهلية الأولى لغة مسجوعه لم تكن الا المادة الأولية للشعر أو هي التعبير الشعري الأول على أقل تقدير، وبقى الحال هكذا إلى أن سقط مضر بن نزار أحد سلاف العرب من على وذلك باعتبار أن الشعر وليد اللاوعي وباعتباره عالم الخيال المطلق، أو هو كما يقول غاتشيف[1] مطلقاً حكمه على أغلب الآثار الأدبية "أن الأثر الابداعي يتطور حتى بعد موت صاحبه".


غيورغي دميتريفش غاتشف ، ولد في موسكو عام 1929. حاصل على دكتوراه دولة عام 1959 وعلى دكتوراه علوم فللوجيا عام 1983، عمل باحثاً بأكاديمية العلوم السوفيتية. "الوعي والفن ترجمة نوفل نيوف - عالم المعرفة "

لغة الشعر

ومن هنا فقد برع العرب في الشعر وطوروا بحوره وأصبح وعاء لغتهم وسجلاً لتاريخهم وإعلامهم المتعدد الأغراض والمصور الطبوغرافي لطبيعتهم الحياتية وكل ما يحيط بها من مناخ ووحش وفلك ونبات وقصص وتراث لذلك نقلوا اليه صحراءهم بكل ما تحمله من مجاهل وتفاصيل وأسرار، وأصبح الشعر هو ديوانهم وجهازهم المعرفي الذي حافظوا عليه وتناقلوه من جيل لجيل وهو السجل الحافل بغزواتهم ومعاركهم وعاداتهم وتقاليدهم ولربما كان "مسجل" لهجاتهم القبائلية الى أن جاءت الرسالة المحمدية الخالدة ونزل القرآن الكريم بـــ "لهجة قريش" فوحد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدين الحنيف لهجاتهم وألغي ما قبح من عاداتهم وهذبهم بنور الحق والمعرفة والعلم، ثم قامت لهم دولة مركزية عظيمة ترفرف عليها راية الإسلام وألقت بظلالها الوارفة على مساحة هائلة من الكرم الأرضية لتشملها بالأمن والأمان، وهكذا بقيت تلك القبائل تحكمها دولة مركزية حتى بعد انتقال السلطة الى الشام على أيدي الأمويين ثم إلى العراق على أيدي العباسيين وكان الشعر العربي يواصل ازدهاره واحتفاء الخلفاء به ذلك إجزال العطايا لشعرائه وبدأوا في تدوينه والاعتناء به وأخذوا منه الحكمة والمعرفة وكتبوا حتى وصفاتهم الطبية به كما فعل ابن سينا، ولكن ما ان انهارت الدولة العباسية وبدأ زمن الدويلات حتى انكفأت القبائل إلى صحرائها.