تعدُّ التقنيَّة بكلِّ أشكالها سِمة أساسيَّة ومهمَّة في هذا العصر الـمُتسارع، فهي لم تعدْ خيارًا فحسب، بل تشابكتْ مع الحياة الـمُعاصرة إلى أنْ وصلتْ إلى الأدب العربي بشكل يدعو إلى إعادة النَّظر في دراسة هذا الأدب ومعرفة مُشكلاته وخاصَّة أثناء ترجمته في هذا العصر الحديث.
وعن تأثُّير الأدب العربي بالتَّطورات الأدبيَّة يُشير الباحث "محمد سناجلة" إلى أنَّ العالم اليوم يحتاج إلى أدب جديد للتَّعبير عن اللَّحظات التَّاريخيَّة والمهمَّة في تحوُّل الإنسان من عالمه الواقعي إلى عالمه الافتراضي الجديد، وأنَّ إطلاق مُسمى "الأدب الكلاسيكي الرقمي" جاء نتيجة للحيرة التي وقع بها النُّقاد والأُدباء في تسمية ما أفرزه هذا العصر الرَّقميُّ من أعمال أدبيَّة جديدة دفعتْ بهم إلى إطلاق مُسمَّيات تقليديَّة "كالرِّواية الرَّقميَّة والمسرح الرَّقميِّ والشِّعر الرَّقميِّ والأدب الرَّقميِّ".
وبناء عليه فالكاتب في العصر الرَّقميِّ وخاصَّة في الأدب العربي يجب عليه أنْ يتمتَّع بموهبة تقنيَّة إلى جانب موهبته الأدبيَّة حتى يصل أدبه إلى أكبر عدد مُمكن مِن القُرَّاء، لأنَّ مفهوم الكتابة اليوم اختلف بشكل كبير عمَّا كان في الماضي، فالباحث اليوم لا يستغني عن برنامج "الورد" والحاسوب مِن أجل كتابة ما يجول في خاطِره مِن نثر أو شعر، وكأنَّ المكتبات العالميَّة اليوم أيضًا أدركتْ هذه المشكلة في التَّحول أثناء البحث والكتابة من الكِتاب الورقيِّ إلى الكِتاب الإلكترونيِّ، حتى أصبح لِزامًا على كلِّ باحث أنْ يكون لديه مكتبة رقميَّة يعتمد عليها أثناء الكِتابة أكثر مِن اعتماده على الكُتب الورقيَّة التي بين يديه.
ويُشير الباحث "جميل حمداوي" في كِتابه "الأدب الرَّقميُّ بين النَّظريَّة والتَّطبيق" إلى أنَّ الأدب الرقميَّ لا يُعدُّ جديدًا اليوم، فالأدب الرَّقميُّ ظهر قبل أنْ يظهر الحاسوب، مُعلِّلًا ذلك بأنَّ الأدب ارتبط فيما مضى بوسائِط تقنيَّة أُخرى غير الحاسوب، كالفلم، والسّينما، والتّلفاز، والمسرح وغيرها، بَيْدَ أنَّه لا بدَّ من وجود بعض السَّلبيات في الأدب الرَّقميِّ، تتجلَّى في صُعوبة الحِفاظ على حُقوق الـمُلكيَّة الفكريَّة وغيرها، فيما سجَّل آخرون كثيرًا من الإيجابيات له، مُقارنة بنظيره الأدب الكلاسيكيِّ، الذي ينتقل عبر الوسائط الإعلاميَّة التَّقليديَّة، كالكِتاب والصُحف الورقيَّة. ويُمكن للأدب الرَّقميِّ أنْ يزيد مِن انتشار الأدب لسهولة التَّواصل عبر الشابكة "الإنترنت" وسُرعة ذلك، ومزايا التَّفاعُل التَّقني بالصَّوت والصُّورة و"الانفوجرافيكس"، إضافة إلى الميزة التَّفاعليَّة للأدب المسموع والمقروء عبر "البودكاست" وغيرها من التَّقنيات الأُخرى.
وقد ظهر مُصطلح "الأدب الرَّقميِّ" في الولايات الـمُتَّحدة في مُنتصف ثمانينيات القرن الماضي تقريبًا، ثمَّ انتشر بعدها إلى أنْ وصل إلى البُلدان العربيَّة، فتعدَّدتْ أشكاله وخصائصه وفُنونه، وكانتْ له مشاكل وتحدِّيات لابدَّ مِن الوقوف عندها، وهو ما سنحاول عرضه ومناقشته في هذا الكِتاب، ثمَّ إنَّ الدِّراسات حوله مَا تزال ضعيفة وتحتاج إلى جهود جماعيَّة ومُؤسساتيَّة حتى يصل هذا الفن إلى مرحلة النضج والكمال.
ويُمكننا أنْ نُعرِّف الأدب العربي الرقمي بأنَّه: هو ذلك الأدب الذي يستفيد من التَّقنيات الـمُتاحة عبر الوسائل الـمُتعدِّدة سواء مِن حاسوب أو أجهزة ذكيَّة أو عبر الشابكة "الانترنت" في عمليَّة الإنتاج والتَّلقي بحيث تخرج تلك الأعمال في أشكال إلكترونيَّة - سواء مطبوعة أو غير مطبوعة - ولكنَّها تصل إلى عدد كبير من القُرَّاء مع حِفاظها على قيمتها الأدبيَّة عبر الشابكة.
وبناء عليه قد نجد أنفُسنا أمام بعض الـمُشكلات التي تُحيط بهذا الأدب الرَّقميِّ، وكيف يُمكننا التَّعامل معه بشكل عام، فالنُّقاد اختلفوا في ثلاثة اتِّجاهات، فمنهم مَن يتعامل معه بشكل تقليديٍّ وأنَّه أدب قديم، وله مُشكلات أثناء دراسته وعرضه، ومِنهم مَن يتعامل معه بشكل شكليٍّ بناء على صِفاته وخصائصه التَّقنيَّة اليوم، ومنهم مَن يتعامل معه بشكل مُجتمعيٍّ بناء على تصوُّر مُجتمع مَا حوله.
ولا يخفى علينا أيضًا مُشكلة ترجمة هذا الأدب العربيِّ وخاصَّة إلى اللُّغة التُّركيَّة، لأنَّ اللُّغة العربيَّة لها كينُونَتُها الخاصَّة وتراكِيبها الـمُختلفة عن اللُّغة التركيَّة، وعلى سبيل المثال: لا تُوجد تاء التأنيث في اللُّغة التركيَّة، والاختلاف الجذري في قواعد النَّحو يُلقي بظلاله على تحريف المعنى الحَرفي للكلمة، ويجعلُها تبدو كما لو كانتْ عِبارة عادية فاقِدة لبريقها إذا لم تُؤدي إلى تغيير المعنى أصلاً، فهناك كلمات في اللُّغة العربيَّة لا يوجد لها مُرادف في اللُّغة التركيَّة، ويتمُّ التَّعامل معها مِن خلال الـمُقاربة اللُّغوية ممَّا يُفقد النَّص جمالياته وأبعاده الدَّلاليَّة في اللُّغة الـمُترجمة وغيرها الكثير من الـمُشكلات والتحدِّيات التي سنقوم بعرضها.
وهُنا نتساءل: هل حافظ الأدب العربيُّ في العصر الحديث أو ما يُسمى بالعصر الرَّقميِّ على مُستواه الأدائي كما كان في الماضي أم أنَّه تطور مع هذه القفزة النَّوعيَّة في عصر التكنولوجيا وأصبح أقرب للجيل الجديد؟ وما مفهوم الأدب العربيِّ الرَّقميِّ وما هي فُنونه وخصائصه ومُشكلاته؟ ما واقعه وتحدِّياته ومُشكلاته اليوم؟ وكيف كانت نشأة وتطوُّر هذا الأدب في العصر الحديث وتحوُّله إلى أدب رقميٍّ؟ وما هي الـمُشكلات والتَّحديات التي تُواجهنا أثناء ترجمة هذا الأدب إلى اللُّغة التُّركيَّة؟
هذا ما حاولنا الإجابة عنه من خلال هذه الأبحاث المحكمة، وقد قسمتها إلى فصول داخل الكتاب مع فهرس ليسهل الاطلاع عليها، وهي:
· الأدب العربيُّ في العصر الحديث، النَّشأة والتَّطور والأهميَّة.
· دراسة الأدب العربيِّ في العصر الرَّقميِّ، مُشكلات وحُلول.
· الأدب العربيُّ الرَّقميُّ، الواقع وتحدِّيات العصر.
· دراسة الأدب العربيِّ وتعليمه في العصر الرَّقميِّ، مُقترحات وحُلول (باللغة التركية).
· مشاكل ترجمة الأدب العربيِّ في العصر الحديث، مع أمثلة نثريَّة مِن الماضي إلى الحاضر (باللغة التركية)
وفي الختام، لا يفوتني توجيه الشُّكر الجزيل لكلِّ مَن ساهم في إنجاح هذا العمل وإتمامه على الشَّكل المطلوب، والله تعالى أسأل أنْ يكون هذا العمل إضافة جديدة تخدم هذا المجال، وتُعين الباحثين لاحقًا على تقديم ما هو جديد ومُفيدة.