لقد أفاضت فلسفة ما بعد الحداثة كثيراً من الرؤى والأفكار والمصطلحات تعبيراً عن مواقفها النقدية ومشاغلها الفكرية، وكانت(السرديات الكبرى) واحدةً من هذه المصطلحات التي وصفت بها الصياغات المفهومية الشمولية التي أطلقتها الحداثة من مثل ( الحق، والعدالة، والعقل، والخير، والذاتية .... الخ ) وآدّعت قدرتها على حلّ مشاكل العالم والمجتمعات، وهذا ما حاولت ما بعد الحداثة تقويضه وعدم صلاحيته في المجتمعات الحديثة القائمة على التطور العلمي المضطرد، إلا أن التقصي الحقيقي لنشوء المجتمعات البشرية يكشف، أنّها لا يمكن أن توجد إلا بعد تحديدها مجموعة من الحاجات الإنسانية الضرورية التي تفترضها الجماعة وتعيَّنها على شكل (سرديات كبرى) لا غنى عنها في صيرورتها الوجودية.
لقد كانت اللغة الأداة الأظهر في يدّ الشعوب والأمم في التعبير عن كل ما يحتويه مخيالها الاجتماعي من سرديات كبرى موِّسسة لها، وهذا ما انمازت به النصوص الخوالد لهذه الشعوب في قدرتها على البذل والعطاء كلما تقادم عليها الزمن واعتصرتها السنون وهو حال الشعر الجاهلي ذلك الكنز الدفين الذي ما انفك يمدّنا بتحفه الإبداعية التي ضمَّت، بين طياتها، التاريخ المعرفي للمجتمع الجاهلي والأسس التي تشكّل على هديها، إذ لا يغيب، عن كل متتبع، الخصوصية البائنة للمجتمع العربي قبل الإسلام، بوصفه مجتمعاً امتلك مقومات وجوده التاريخي، وحفلت حياته الاجتماعية بتنويعات سلوكية عدَّة انحاز كثير منها إلى مؤسسات وظيفية داخل إطار النظام المجتمعي العام، بما يضمن خضوعها إلى دلالات مؤسسِّة بعينها، ما يمنحنا الرخصة في البحث عن سرديات كبرى متوارية تحت عباءة الجمالي الشعري الذي كان سمته الطاغية.