لم يلق كتاب من العناية مثل ما لقي موطأ مالك رضي الله عنه فقد اتفق أهل النقل قاطبة على صحة هذا الكتاب ويكفيه شهادة الإمام الشافعي رضي الله عنه (وهوة من تلامذة مالك) إذ يقول: "ما على ظهر كتاب بعد كتاب الله تعالى أصح من موطأ مالك" وناهيك فخراً لهذا الكتاب بأن فيه سد سلسلة الذهب وهو نافع عن مالك عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال جمع من المحققين أن هذه الأحاديث أرفع رتبة من البخاري ومسلم.
وقد روى الموطأ عن مالك جمع غفير من الرواة منهم معن بن عيسى، وابن بكير وابن غفير، والصوري، ويحيى بن يحيى، وعلي بن زياد وغيرهم. ومن أشهر الرواة الذين رووا الموطأ (علي بن زياد التونسي العبسي المتوفي سنة 183هـ. وهو من خبرة علماء المغرب وأجلهم، طلب العلم، ورحل بسببه إلى الحجاز والعراق، وهو ثقة مأمون، بارع في الفقه، لم يكن بعصره له شبيه.
ويمثل تأليفه "موطأ ابن زياد" أول التأليف في الإسلام ثم أول تأليف ظهر بإفريقية وأول رواية للموطأ ظهرت على وجه الأرض.
فقيمة هذا الأثر بالغة الأهمية وهو مأرب المتطلعين للبحث، الذين يريدون الاتصال بأول ما ألف في القرن الثاني، وعمدة الوقوف على تطور الموطأ. ولم تقتصر أهمية هذه القطعة على كونها أثراً تاريخياً بل تجاوزت ذلك إلى الوقوف على بعض آراء ابن زياد التي يبنيها على ما يشبه الإجماع، ويرى وغير ما يراه الإمام مع تقفيه لقواعده مما يدل على تحرره. من ذلك أن مالكاً يرى أن الإنسية إذا ندت وشردت لا تقتل بما يقتل به الصيد فخالفه علي بن زياد حيث رأى الحق ليس معه.
فهذه القطعة تعطينا أن ابن زياد كان من المجتهدين في المذهب المالكي الذين يرجحون غير ما رجحه الإمام بناء على قواعده الأصولية في المذهب مثل اعتبار ما عليه العمل وانساقت له الأكثرية. وهي قاعدة مهمة غفل عنها الكثير فوقعوا في أخطاء ومزالق.
فهو قد فتح الباب لإثراء المذهب بما يقاس فيه على قواعده التي هي من أصول الإسلام, وبهذا يتبين ويتضح ما قاله المخزومي، وابن كنانة في حقه: "ما طرأ علينا طارئ كشف لنا عن هذا الأمر، كشف لنا مالكاً عن الأصول كشف علي بن زياد" ويبدو أن علي بن زياد هو المبرز والموضح للأصول التي ابتنى عليها مذهب مالك فهو الذي استخرجها من فقهه وأبداها لتلاميذه فعرفوا المذهب المالكي في أصوله لا في تفاريعه فحسب.
وبالنظر لأهمية هذا العلق النفيس الذي يمثل الخيط الأول في المذهب المالكي وجد المحقق الشيخ "محمد الشاذلي النيفر" أنه لا بد له من أن يربط بينه وبين بقية المؤلفات الأصول الأولى المذهبية مثل موطأ يحيى بن يحيى الليثي وموطأ محمد بن الحسن.
ولم يهمل الربط بعد ذلك بينه وبين ما شرحت به تلك الأصول مثل شروح الموطأ للباجي، والسيوطي، والزرقاني، و"التعليق المجمد على موطأ الإمام محمد"، كما لم يهمل كتب الفقه، وبالأخص "متن خليل" الذي يمثل آخر الخطوات في التأليف الفقهي في المذهب المالكي، حتى أن ما جاء بعده لم يخرج عن غراره مثل "أقرب المسالك". وأتبعه بشروحه الشهيرة التي تكشف عن مراميه مثل شرح الحطاب والمواق والخرشي والرزقاني وما اعتمده هذا الأخير من الكتابات قبله، وكذلك حواشيه للبناني والرهوني وقنون إلى غير ذلك مما تمس الحاجة إليه.
والغرض من هذا الربط هو تبيين أن الفقه المالكي من لدن الإمام إلى ما بعد عصره بقرون حتى القرن الثامن الذي ألف فيه خليل مختصره إذ توفي خليل سنة (776هـ) لم يخرج عن مبادئه وهي مبادئ فقه مالك، وإن كان مما جاء به خليل خلافاً لما يذهب إليه البعض من أن وجهة قد تعير، وكما لم يتغير في القرن الثامن فكذلك ما بعده إلى القرن الثاني عشر حيث ضعفت العناية بالفقه وقل أو انعدم التأليف الفقهي ويمثل القرن الثاني عشر "الإكليل" للأمير.
كما واهتم المحقق بالتقديم لمتن الموطأ بمقدمة شرح فيها الخطوات السابقة على الموطأ، ومنزلة هذا الكتاب بين الكتب الحديثية بما يزيل ما علق بالأذهان من أنه ليس من الكتب الصحاح كما ذكر الحافظ ابن حجر.
وخصص أكثرية المقدمة للحديث عن الموطأ الزيادي في تاريخ رواية ابن زياد له حتى طواه النسيان، ثم عمن عرفه من أهل المشرق إلى غير ذلك مما يلقي أضواء على هذا الكتاب تجعله ينشر بعد ذلك الخمود والإهمال، وعن تاريخ النسخة التي اعتمدها كمادة للموطأ.
ومن ثم سعى لتحقيق النص باذلاً الجهد في تحقيقه، ومن ثم قام بدرس مسائل هذه القطعة موطأ ابن زياد بما يربط بينها وبين غيرها كما وضحناه، كما وفصل كل مبحث ورقمه حتى تكون المسائل كل واحدة منها مفصولة عن الأخرى بادية للعيان، وما كان من تكرار كما هو عادة المحدثين نبه على ذلك في التعليق المماشي لهذه المسائل. وأخيراً أشار إلى التحريفات إما خاصة، أو عامة لتكون هذه النسخة العتيقة كما هي لم تختلف عن أصلها في شيء ما مع أنها مصححة غير محرفة، وإنما نبه على التحريف ليس إلا، وختم الطبعة بفهارس متنوعة يتناول بعضها هذه القطعة، وبعضها يخص الدراسة والتعليق للأعلام كلها من أشخاص وبلدان وكتب وموضوعات.