الحياة حالة كونية تميز جميع الكائنات الحية (البشر، الحيوانات، النباتات، الفطريات والبكتريا وأحاديات الخلية والجراثيم) عن الأشكال غير الحية، وأيضا عن الكائنات الحية بعد موتها. فالكائنات الحية تمتاز عن غيرها بقدرتها على التكاثر والاستقلاب لضمان استمرار التكاثر النوعي، فثمة تنوع هائل من الكائنات الحية من حولنا والتي تمر كل منها بطرائق وأطوار متعددة في النشأة، فيما يعرف بعملية التطور والبناء الحيوي.
لا شك أن الحياة أكثر تعقيداً مما يمكن أن نتصوره، فهذا الكم الهائل واللامتناهي من التفاعلات الحيوية غير الظاهرة للعيان تعبر بشكل أو آخر عن حقيقتها في المنظور الأرضي، وقد تتخذ شكلا آخر في المنظور الكوني، إلا انها بالتأكيد ستكشف عن حقيقتها في الآخرة كما في قوله تعالى: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ *}.
من هنا فقد شكلت حقيقة النشأة واحدة من أهم القضايا التي تعامل معها العقل الإنساني منذ بدايات حركة التاريخ، ليس لعلاقتها المباشرة بالإنسان وتطوره البنيوي، ولكن لفهم حجم التفاعلات اللامتناهية في مكونات الجسم البشري نفسه، فالتنوع يعني المزيد من الفعاليات الحيوية التي تبقى في تفاعل مستمر مادام الإنسان حياً، فالحياة على اتساعها، وتعدد أشكالها، قد قدمت نماذج مختلفة تتباين فيها قوة الحياة وصورها من حالة الى أخرى، ومن شكل إلى آخر.
فالمخلوقات الاحادية الخلية مثل: الأميبا، Ameba ) واليوغلينا Euglena )، والسبايروجيرا، Spirogyra ) والكلاميدومناس Chlamydomonas ) كائنات حية تملك قوة الحياة ولكنها من جانب آخر، ووفق طبيعتها التكوينية ومعيشتها تظهر بطبيعة حيوانية مرة مثل الأميبا Ameba )، وطبيعة نباتية مثل السبايروجيرا Spirogyra ) والكلاميدومناس Chlamydomonas )، وأخرى مشتركة بين الحيوان والنبات مثل اليوغلينا Euglena )، غير أنَّ هذه الكائنات الأحادية الخلية لا يمكن لها أنْ تتطور الى كيانات أكبر في بنيتها التكوينية وأكثر تعقيدا مما هي عليه، كما أنها لا تستطيع حتى في عمليات التكاثر الخلوي أن تنتج نماذج تكوينية تختلف عنها في الأشكال والتراكيب الحيوية لأنها لا تملك عناصر التطور (الجينات)، وبالتالي فهي في تكاثرها تنتج على الدوام مثيلات لها بشكل مستمر.
بينما نجد أنَّ الحيمن الذكري Sperm ) وهو أيضا مخلوق أحادي الخلية يمكن له أنْ يُنتِج بعد اللقاء بالبويضة الانثوية ( Ova أو Ovum ) (وهي الأخرى حيوان أحادي الخلية) جنساً تكوينياً يختلف في شكله وخواصه وقدراته ومراحل تطوره عن كل من الحيمن والبويضة بما يحمل كلاهما من عناصر التطور (الجينات الوراثية)، فكل من الذكر والأنثى يحمل في خلاياه (23) زوجاً من الكروموسومات Chromosomes ) أحدها كروموسوم جنسي Sex Chromosome )، ولقاء الحيمن بالبويضة سيُنتج كياناً كاملا (الإنسان) الذي يحمل في خلاياه (46) زوجاً من الكروموسومات والتي يعتبرها علماء الجينات العدد الكامل، كما وجدوا أنَّ الإنسان هو الكائن الوحيد بين المخلوقات الأرضية الذي يحمل هذا العدد من الصبغة الجينية المتناغمة في كمالها.
وقد وجد أنَّ زوجاً واحداً من الكرموسومات الـ (23) للذكور والإناث يحمل صبغية تعيِّن جنس الجنين، فهو إما أن يكون من نوع X ) واحد وهو الصبغية الانثوية، أو Y ) واحد ويسمى بالصبغية الذكرية، وأثناء الانقسام الخلوي ستحمل الخلية صبغيات يكون نصفها من النوع X ) والنصف الآخر من النوع Y )، وبعد التلقيح، فالأنثى تحمل XX ) والذكر XY ).
في العلاقة الجسدية بين الرجل والمرأة تحتوي الدفعة الأولى التي يقذفها الرجل على كمية هائلة من الحيامن تقدر بين (500-700) مليون حيمن، في حين ينتج المبيض الأُنثوي (300-400) بويضة، مما يعني قوة التلقيح بحيمن واحد.
وأما الروح، فيمكن تصورها بالطاقة الحيوية الفاعلة والمحركة للبدن، فغيابها سيعني فقدان الجسم الحي (إنسان أو حيوان) لطاقته وبالتالي يحدث الموت ويبدأ تحلل الأعضاء الحيوية.
فالنشأة إذن عملية معقدة تعتمد تراكماً كمّياً من التفاعلات الإحيائية والكيميائية يدخل فيها الكيان الجنيني مراحل متعددة من التطور ليتحول في الإنسان من حيمن يلتقي ببويضة الى كائن يتمثل بعدد كبير من الأنسجة التي يختص كل منها بصفات متعددة، ويقوم كل منها بفعاليات عضوية وحيوية متنوعة. فالنسيج العصبي يختلف عن النسيج العضلي مثلا وكل واحد منها له أشكال وفعاليات ونتائج مختلفة، غير أنها تبقى مرتبطة بطبيعة أصل التكوين كموقف إلهي فقال: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ *}.
من هنا نعلم أنَّ الله هو الخالق والمنشىء، وأن للمنشىء قواعد خاصة في عملية النشوء وتطور مراحلها، وصفات الحواس ووظائفها، هذه القواعد لا تبتعد عن وظيفة الإنسان والمهام المناطة به. ولكي تتم هذه المعرفة في عقل الإنسان فإنها لا تتحقق إلا بتظافر عدد كبير من العلوم المتخصصة، والمعارف العامة لكي يقترب من فهم حقيقة النشأة ومعنى الوجود.
لا شك أنّ علم الأجنّة يحتل مساحة كبيرة يشترك فيها عديد من العلوم الاحيائية الأخرى، كعلم الخلية، وعلم الأنسجة، وعلم فسلجة (وظائف) الأعضاء، وعلم الكيمياء الحيوية، وغيرها، مما يعكس تعقيدا فريداً لا يقف عند حد مروراً بالتلقيح وبمراحل التطور الجنيني والتغييرات الحاصلة شكلياً ووظيفياً.
فالجنين إذن بمراحله المتنوعة من الخلية الأولى (الحيمن) وحتى الخروج الى الحياة، إنما يمثل مرحلة تاريخية تحتل مساحة زمنية ومكانية في عالم الوجود، تطرح تأثيرات متنوعة ومتباينة، كما إنه في كل مرحلة من مراحل تطوره يتأثر بالمحيط والحالات الجسدية والنفسية للأم، كما يتأثر بنوعية الأغذية والأشربة والجوانب الصحية والعقلية لها، ولذا نراه يستجيب للعوامل الإيجابية ويتفاعل معها في أطوار النمو داخل الرحم، وهو يتأثر أيضا بالعوامل السلبية. وكل ذلك ينعكس على طبيعة الأنسجة المتكونة من ناحيتي الضعف والقوة، وأيضا يؤثر في الوظائف الحيوية للأعضاء بما يمكن أنْ يسبب أمراضاً أو إشكالات صحية للجنين.
من هنا يصبح من المهم البحث في علاقة الجنين بالتشريعات والقوانين التي تفسر بناءه التكويني من الناحية البايولوجية، ومراحله وحالاته وما ينعكس من ذلك على نشأته ككيان بشري، أو على الأم من عوارض ناتجة عن التأثيرات الخارجية أو الداخلية التي ستؤدي إلى إسقاطه وإيقاف مراحل نموه داخل الرحم، إضافة لما تترتب على أحكام وقوانين تحكم مصلحة الجنين وتحافظ عليها في مقابل مصلحة الأم ومصلحة الأطراف المتعلقة بالجنين خاصة في القضايا الجرمية وفي أحكام الموت والدفن والوراثة وغيرها.
كان شيخنا الفقيه آية الله محمد صادق الكرباسي قد تعرّض للأحكام الشرعية للجنين في كتابه شريعة الجنين حيث كان الجنين قضية من ألف قضية يتعرض لها شيخي وأُستاذي الفقيه الكرباسي في سلسلة الشرائع التي وضعها، ليُبيّن موقفه التشريعي من حركة الحياة بكل ما تحمل من قضايا متنوعة يعرض فيها رأيه في الحُكم الشرعي بما يمكن اعتباره طروحات حديثة في فهم الأحكام الشرعية.
لا شك أنَّ البناء الفقهي عند الفقيه الكرباسي يتبع بالأساس المدرسة الحوزوية العريقة، إلا أنّه أفاد كثيراً من تجاربه الحياتية وسعة اطلاعه ليؤسس مدرسة تشريعية معاصرة تستلهم المنهج العريق للحوزة العلمية ولتلقي نظرة فاحصة على المناهج العلمية المعاصرة مما مكنه من أن يتفرد بطروحاته التشريعية باعتباره أحد مشاهير مجددي المنهج التشريعي المعاصر.
إلا أن عمله الكبير يبقى عملاً تأسيسياً متفرداً يحتاج الى بحوث علمية معمقة تشرح مواقفه في فهم القضايا التشريعية وتطبيقات أحكامها، وتبيان عللها، ومسبباتها، فمن قواعد فهم الحكم الشرعي أن يتم معرفة علته ومسببات وقوعه بهذا الشكل أو ذاك.
غير أنَّ علل أحكام الشريعة تبقى بعيدة عن الإدراك العقلي للإنسان، إضافة الى الأحكام ذاتها، ومع تبيان الموقف العملي الذي تفرضه الشريعة على الإنسان يصبح هذا الأخير قادرا على التوفيق بين سلوكه في مختلف العلاقات الوجودية والإنسانية، وبين الأحكام الشرعية، باعتبار أنَّ الشريعة إنما وضعت لتنظيم حياة الإنسان، وللسير به في طريق السعادة وفق المشروع الإلهي.
فإذا كانت القوانين في اللغة تعبِّر عن مقياس لكل شيء، فإنها في الجانب الاصطلاحي تمثّـل مجموعة من القواعد والأحكام العامة والتي يتّبعها الناس في علاقاتهم الاجتماعية والإنسانية، وإنها ذاتها تحتاج الى الكثير من الشرح والتفسير بسبب طبيعة التباين الكبير من العلاقات والقضايا التي يتعرّض لها الإنسان في مسيرة حياته والتي تحتاج دائما الى تبيان علّتها ومسبّباتها وشرح نتائجها.
إن فهم العلية بين المادي والروحي تقدم منظوراً واقعياً في فهم الحكم الشرعي والشكل التأسيسي له، باعتبار أنَّ العلاقات السببية تمثل الجانب الأكبر في منظومة العلاقات الإنسانية.
لقد وقف المُشرِّعون كثيراً أمام قضية الجنين وتعقيد مراحله التكوينية، وفي تبيان نوع الأحكام التشريعية التي تتفق وحال كل مرحلة من مراحل النمو الجنيني في الرحم، فما يتفق مع النطفة الأولية من أحكام شرعية لا تفي في إيقاعها على النطفة الأمشاج، وهذه تختلف عن العلقة في أحكامها.. وهكذا وصولا الى الجنين الكامل الذي يسبق مرحلة الولادة.
من هنا يصبح البحث التشريعي ضرورة ملحة لإيجاد قواعد تفسر الأحكام الشرعية من موقف علمي إضافة الى الموقف الفقهي.
لاحظنا أنّه خلال قرون عديدة لم تظهر دراسات معمقة تشرح الأحكام الشرعية وتبين غاياتها.
فعندما حاول شيخ الطائفة الطوسي، شرح المقنعة للشيخ المفيد، فانه أبقى على ذلك التقليد محافظاً على منهج شيخه المفيد، وهو ما ذهب اليه أيضا الشهيدان الأول والثاني في شرحهما للمقنعة. فعلى الرغم من الروايات الموثقة والأحاديث والأخبار التي رصدرها الشراح إلا أنَّ المنهج الكلاسيكي بقي مسيطراً على البحث العلمي الذي يتفق مع روح ذلك العصر.
وقد وجدنا أن من المهم أن نعمل على التعمق في تناول الأحكام الشرعية التي أوردها شيخنا وأستاذنا الفقيه محمد صادق الكرباسي في أحكام الجنين بما يتناسب والمنهج العلمي المعاصر في الحوزات العلمية والجامعات الأكاديمية على السواء، فحاولنا المزاوجة بين المنهجين كما بينا ذلك في مناقشتنا لمنهج بحثنا هذا.
إن هذا التنوع يعكس سعة الموقف التشريعي من تبيان ضرورات الحياة، كما انه يبين تطوره في كل مرحلة من مراحل النمو الجنيني، بما يتفق وتطور البناء الجنيني في الرحم، إضافة لتزايد عمر الجنين في كل مرحلة بما يعكس تكاملا تدريجيا في عملية التكوين، باعتبارها عملية تراكمية لعناصر الحياة.
ومما يظهر ان المنطق التشريعي في وضع الأحكام الشرعية إنما يتفق مع التسلسل الحياتي للجنين، وقد تفسر هذه ظاهرة العلاقات المتعددة التي تحكم ارتباط الإنسان بالحياة والوجود......