هذا الكتاب يتحدث عن القدر وقد سرت على هدي القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة في بيان هذا الركن من الإيمان وابتعدت كل البعد عن مناهج الفرق الكلامية المذاهب الفلسفية وحرصت على أن أبين ما كان عليه رسول الله وأصحابه من صفاء ووضوح في أصول الإيمان.
وهذا الكتاب يستهدف مخاطبة العقول، وأحياء القلوب وتحريك الفطر، وربط الناس بالخالق العظيم وبيان ما يجب معرفته على المكلف النبيل فضلاً عن الفاضل الجليل وما ورد في القضاء والقدر والحكمة والتعليل فهو أسمى المقاصد، والإيمان به قطب رحى التوحيد ونظامه، ومبدأ الدين المبين وختامه فهو أحد أركان الإيمان وقاعدة أساس الإحسان التي يرجع إليها ويدور في جميع تصاريفه عليها فالعدل قوام الملك، والحكمة مظهر الحمد، والتوحيد متضمن لنهاية الحكمة وكمال النعمة، ولا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، فبالقدر والحكمة ظهر خلقه وشرعه المبين ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأعراف: 54].
ولقد وقفت على تجارب علماء كبار ممن خاضوا في بحر علم الكلام وكادوا أن يهلكوا لولا رحمة الله بهم وقدموا لنا خلاصة تجاربهم المريرة لكي نستفيد منها الدروس والعبر، وحثوا الناس على التمسك بالكتاب والسنة وهدي الصحابة الكرام ومن هؤلاء:
1ــ أبو الحسن الأشعري: قال: ..... قولنا الذي نقول به وديانتنا التي ندين بها التمسك بكتاب ربنا عز وجل وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم وما روى عن الصحابة التابعين، وأئمة الحديث ونحن بذلك معتصمون([1]) .
2ــ أبو حامد الغزالي: قال: إن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا محتاجين إلى محاجة اليهود والنصارى في إثباة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فما زادوا على أدلة القرآن شيئاً وما ركبوا ظهر اللّجاج في وضع المقاييس العقلية وترتيب المقدمات كل ذلك لعلمهم بأن ذلك مثار الفتن ومنبع التشويش ومن لا يقنعه أدلة القرآن لا يقمعه إلا السيف والسنان، فما بعد بيان الله بيان([2]) .
3ــ إمام الحرمين الجويني: قال: لقد خضت البحر الخضم، وتركت أهل الإسلام وعلومهم وخضت في الذي نهوني عنه، والآن إن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لفلان، وها أنا أموت على عقيدة أمي([3]) .
4ــ الفخر الرازي (606ه): قال:
نهاية إقدام العقول عقال
وأكثر سعي العالمين ضــلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا
وحاصل دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا
سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
وكم من جبال قد علت شرفاتها
رجال فماتوا والجبال جبال
لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، اقرأ في الإثبات ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه: 5] ﴿ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ﴾ [فاطر: 10] وأقرأ في النفي ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾ [طه: 110] ومن جرّب مثل تجريبتي عرف مثل معرفتي([4]) .
فهذا الكتاب يتحدث عن القدر بعيداً عن صخب الأهواء وأغشية الشبهات وضجيج المجادلات، فقد طالعت ركاماً هائلاً من الميراث التاريخي في هذا الباب فرأيت من الفائدة تركها والعودة إلى عصر النبوة والصحابة للوصول إلى يقين ذلك الجيل المبارك وطمأنينته والذي نهل من المعين الصافي الذي تكفل الله بحفظه والمتمثل في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [الأنعام: 153]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة رسوله([5]) . وقال صلى الله عليه وسلم: من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد([6]) .
([1]) الإبانة لأبي الحسن الأشعري ص17.
([2]) عقيدة المسلمين في صفات رب العالمين للصَّلاَّبي ص159.
([3]) إلجام العوام عن علم الكلام للغزالي ص89 ـ 90.
([4]) عقيدة المسلمين في صفات رب العالمين ص159.
([5]) رواه مالك في الموطأ بلاغا في ك القدر (2/ 898) .
([6]) مسلم، ك الأقضية (2/ 1343 ـ 1344) .