في إطار النظر إلى النماذج التاريخية الثرية لدول الخلافة الإسلامية على مدار أربعة عشر قرنًا، كان لزامًا تناول خمس خبرات رئيسية كبرى بالدراسة والتحليل؛ لرصد ما قدمته من قيم ونظم ومؤسسات، ولفهم مكامن قوة وضعف هذه الدول، ولتبيان أهم القوى الحضارية الفاعلة فيها. وقد تم تناول أول ثلاث تجارب كبرى في الجزء الأول من كتاب النظم السياسية في التاريخ الإسلامي؛ وهي: الخلافة الراشدة مع العهد النبوي، والخلافة الأموية، وصولا إلى الخلافة العباسية. ويقوم هذا الجزء الثاني بمعالجة تجربتين من أهم تجارب المسلمين السياسية التاريخية؛ وهما: الدولتان الأندلسية والعثمانية؛ وذلك استكمالا لدراسة مرحلة ما قبل الدولة القومية في تاريخ النظم السياسية للمسلمين؛ وفي القلب منهم: العرب.
ويشكل الكتابان (الجزء الأول والثاني) وحدة دراسية عضوية يكمل بعضها البعض الآخر، ليس فقط لكونهما يتعرضان لخبرات دول الخلافة الإسلامية الخمس الكبرى، أو لكونهما يستخدمان المنظور الحضاري لفهم وتفسير النظم السياسية لهذه الدول، وإنما الأهم أنهما يشتركان في رصد التجارب التاريخية للخلافة بوصفها وحدة حضارية كلية، وإن تمايزت كل تجربة في بعض المعطيات والظروف، لقد اشتركت جميعها -هوية وتشريعًا- فى الارتكاز على المرجعية الإسلامية الحاكمة. ومن هذا المنطلق، يتم تقييم ممارسات النظم السياسية وأسباب قوة أو ضعف هذه الدول؛ انطلاقًا من مدى قربها أو بُعدها عن تطبيق هذه المرجعية وتفعيلها.
ولفهم التجارب السياسية في هذه الدول الخمس، تم الاعتماد على ثلاثية (المؤسسات - الوظائف - القوى) مع الانتباه لأهمية المتغيرات الثقافية؛ وعلى رأسها: الانتماء فكرًا ومعاشًا لمفهوم الأمة الإسلامية، وإن تحقق بطرق ودرجات متفاوتة. لذا لم يتم استبعاد التاريخ الاجتماعي، بل جرت الاستفادة منه -كلما أمكن- لفهمٍ أدق لمجريات التفاعلات السياسية وحياة الناس وأدوارهم في ظل دول الخلافة، والتي انضوت تحت رايتها شعوب ومجتمعات متنوعة.