في عام 2002م حصلنا على مخطوطةِ التفسير الكبير للإمام الطبراني من المكتبة الوطنية في مدينة (ستراسبورغ) في فرنسا وكانت تحت رقم(4174)، وذلك على شكل ميكروفيلم، وقمنا بتحويلها إلى نسخةٍ ورقيةٍ، وباشرنا بقراءتها وضبط نصوصها، فوجدناها تحتوي على تفسيرٍ فريدٍ وكنزٍ ثمين وجهدٍ عظيم قد بُذل فيها، ليكون خلاصةً في التفسير مضافاً إليه بصماتٍ إبداعية واضحة، باجتهادٍ صحيح دالٍ على خبرةٍ ناضجةٍ واستنارةٍ فقهية منبثقة عن أصول فكرية نقية وسليمة، ومعانٍ واضحةٍ للآياتِ وصافية من الأدران، خاليةً من الاجترار والتكرار، بعيدةً عن الجمود، غزيرة بالدلالاتِ اللغوية، وغنية بالقصصِ وأسباب النزول. آياته مرتبة ترتيباً متناسقاً متميزاً في التسلسل والتتابع عند التعامل مع النصوص القرآنية ومفردات الآيات، وهو يُعدُّ تفسيراً فريداً في منهجه، لاعتماده على الخبرة المعرفية في اللغة واللسان والحديث والأثر، واستحضار أقوالَ العلماءِ السابقين وخبراتهم في مجال التفسير، لتتضحُ دلالاتُ الآياتِ ومعانيها بأسلوبٍ حَسَنٍ في التعبيرِ سهلٌ في العبارةِ واضحٌ في الدلالةِ مقنعٌ في البيانِ والاستدلالِ بالحديث والأثرِ واللسانِ ومعاني المفرداتِ حسبُ المعهودِ الذهني الذي يُعَبَّرُ عنه في سياقِ النص بما يضفي عليه معاني جديدة تزيده تألقاً وتميزاً حين يَزدادُ وضوحاً.
وباختصار فإنَّ مسلك الإمام الطبراني في هذا التفسير تمثل في خطين متوازيين:
الأول: إتيانه بدلالةِ ألفاظ النص القرآني حسب ما هو معهودٌ في لسان العرب مبيناً ذلك بالشواهد اللغوية حسب الأصول المعرفية؛ ليتقرر الوجهة النحوية أو البلاغية أو الدلالية التي تفيد المعنى المقصود على الوجه الذي أراده العليم الحكيم مُنْزلُ الكتاب العظيم، وبما يؤدي إلى الفهم الصحيح للنص القرآني الكريم.
ثانياً: إتيانه بأسباب نزول الآيات حسب ورودها أو الأحاديث والآثار والأقوال والآراء ذوات العلاقة المباشرة أو غير المباشرة بالنص، مما يفيدُ فائدةً كبيرةً حين ذكرها في مواضعها المناسبة، لزيادةَ وضوح دلالة الآيات البيّنات.
وبهذا المسلك يكون الإمام الطبراني قد خطَّ لنفسه منهجاً فريداً ومتميزاً جمع فيه خلاصة آراء السابقين وأقوال أهل هذا العلم مضافاً إليه بصمته الخاصة التي أطرَّت له إطاره الخاص لمنهجه الفريد.
إلاّ أنَّ هذا التفسير كغيره من التفاسير لم يسلمْ من الآراء الشاذة أو بعض الأقوال غير المقبولة وخصوصاً الإسرائيليات التي تُعدُّ حشواً مذموماً في كتب التفسير والتي أشار الإمام الطبراني إلى بعضها كإشارته للأقوال المذمومة الواردة في حقِّ نبي الله داود u في الآية (24) من سورة (ص) فأشار إلى تلك الأقوال بقوله: (إلاّ أنَّ هذا قَوْلٌ مَرْدُودٌ، لاَ يُظَنُّ بِدَاوُدَ u ضَلاَلَةٌ، فهو أجَلُّ قدراً وأعظمُ منْزلَةً من أن يوصف بهذه الأوصاف التي لا تليق بالأنبياء، وكيف يُظنُّ بالأنبياءِ عليهم السَّلام أن يعرِّضَ المسلمينَ للقتلِ لتحصيل نسائهم لأنفُسِهم، ومَنْ نَسَبَ الأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ إلَى هَذَا وَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ مِمَّنْ لاَ يَصْلُحُ لإيْمَانِهِ بِهِمْ، وَلَئِنْ يُخْطِئَ الإنْسَانُ فِي نَفْيِ الْفَوَاحِشِ عَنْهُمْ خَيْرٌ مِمَّنْ يُخْطِئُ فِي إضَافَتِهَا إلَيْهِمْ، وَقَدْ أُمِرْنَا فِي الشَّرِيعَةِ بِحَمْلِ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الصِّحَّةِ وَالسَّدَادِ مَا أَمْكَنَ. وعن عليٍّ t أنه قال: (لَئِنْ سَمِعْتُ أَحَداً يَقُولُ إنَّ دَاوُدَ u قَارَبَ مِنْ تِلْكَ الْمَرْأَةِ سُواءً أَوْ حَدَّثَ بِحَدِيثِ دَاوُدَ u عَلَى مَا يَرْوِيهِ الْقُصَّاصُ مُعْتَقِداً صِحَّتَهُ جَلَدْتُهُ مِائَةً وَسِتِّينَ جَلْدَةً) يعني مثلَي حدِّ قذفِ سائرِ الناس).
وعلى الرغم من هذه الإشارة وغيرها مما يتعلق بمثل هذه الأقوال الواردة، فإن الإمام الطبراني قد أورد بعض القصص التوراتية والأخبار غير المنطقية من الإسرائيليات التي كان يغنيه عنها ذكره الأخبار الصحيحة، أو على الأقل تجنب ذكر الأقوال التي لا يمكن القبول أو التسليم بها.
كذلك نقل بعض الأقوال الشاذة والآراء التي تتعارض مع السياق العام للتفسير وتُعدُّ مما يُشْكِلُّ على القارئ فهمه وتدبره للآيات البيّنات، وعلى الرغم من أنها أقوال مأثورة وبعضها معهود في الذهن عند أكثر الناس ومذكورة في أكثر التفاسير سواء التي سبقت عصر الطبراني أو التي جاءت بعده.
لذلك كله رأيتُ أن أعمد إلى تهذيب هذا التفسير القيِّم وتخليصه من كل الآراء الشاذة والأقوال المذمومة التي لا تليق البتة أن تنسب إلى الأنبياء المطهرين وهي بلا شك مردودةٌ قطعاً ولا نقبلها تنزيهاً من الصاق العيب والقدح بأنبياء الله عليهم السلام.
وهذا العمل في التهذيب يُعتبر من أعمال التنقية والتصفية له مما شابه من الأقوال والآراء والحشو الذي لا يليق بهذا التفسير المرتكز على أصول فكرية سليمة ورؤية صافية.
ليخرج بعد هذا العمل بأحسن صورة وأفضل محتوى وأنقى بيان؛ ليكون تفسيراً فريداً بحقٍّ كما هو موصوف.