لا أريد أن أعتذر عن الإقدام على كتابة هذه المذكرات فهي موجهة
ـ أساسا ـ إلى أبنائي والمقربين مني، ولكن إن كان هناك مبرر لكتابتها فلانني وأبناء جيلي، ممن هم في مثل سني ، نعتبر آخر جيل من الذين عاشوا حياتين مختلفتين عاما؛ حياة آبائنا الذين عاشوا قبلنا ثم حياة أبنائنا الذين أتوا بعدنا .
فأنا من الجيل الذي عرف الفقر وشظف العيش والبيوت القديمة التقليدية التي كانت تضاء بالفوانيس والسرج، الجيل الذي سار في شوارع ترابية ضيقة غير مضاءة، واقتصر في قوته على طعام قلمازاد عن خبز يطرى ببعض الإدام المتواضع - الجيل الذي كان يسعد الفرد منه لو وجد عنده ثوبين ، أو لو أن الثوب الوحيد الذي لديه لم يكن أحيانا ممزقا ومرقعا.
أجل لقد عشنا ذلك كله، وأكثر منه، إلى أk لطف الله بعباده وبدل حالآ بحال .
لهذا أكتب حتى يقرأ أولادي ولا ينسوا جذورهم.
لا يعقد الكتاب مقارنة يين جيلين، أو بين عصرين، بل يسجل بعض
لمحات من حياة إنسان عاش في زمنين متباينين أشد التباين ، زمن بقي ثابتا لم يتغير لقرون عديدة، عاش الناس فيه حياة متقاربة، متكررة، يتوارثها الأبناء عن الآباء، جيلا بعـد جيل، وزمن آخر غلبت عليه سرعة التغير والتقلب، وتتابعت فيه صقحات جديـدة، وأحياناعنيفة في كل مجال من مجالاته؛ الفكرية والاجتماعية والصناعية وغيرها.
ولا أود الدخول في الحديث عن القلق والتوتر وكل الأمراض النفسية
والجسدية التي باتت تهدد الإنسان الحديث ، كما لا أريد أن أتحدث عن
الأزمات النفسية التي تصيب الإنسان في عصرنا الحاضر، في كفاحه وكده وعرقه ليهيىء لنفسه وأهله مستوى من المعيشة يتساوى به مع جاره ومع الآخرين، هذا شيء أتركه لأبناء هذا الزمان أنفسهم ليتعاملوا معه .
فهذا الكتاب يسجل لمحات من حياة إنسان عادي عاش زمنين متباينين أشد التباين، وعلى الرغم من مضي ما يزيد على خمسين عاما على ما سيجده القارئ مدونا في الصفحات الأولى من هذا الكتاب إلا أنني حرصت على
الخفاظ على التسلسل الزمني الذي يربط ما دونته من أحداث وعلامات
تستحق التسجيل، أملا أن أكون قد وفقت إلى الهدف الذي رميت إليه وهو كما ذكرت في البداية إعطاء أبناء جيل اليوم صورة عن كيف كان آباؤهم يعيشون قبل أن يشاركوهم حياتهم الحاضرة.
منصور بن محمد الخريجي
العبيكان للنشر
1999